فصل: ذِكْرُ الآيَةِ الأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ}.

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نواسخ القرآن



.ذِكْرُ الآيَةِ السَّادِسَةِ وَالثَّلاثِينَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ}.

أَمَّا إِبْدَاءُ مَا فِي النَّفْسِ فَإِنَّهُ الْعَمَلُ بِمَا أَضْمَرَهُ الْعَبْدُ أَوْ نَطَقَ بِهِ، وَهَذَا مِمَّا يُحَاسَبُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ، وَيُؤَاخَذُ بِهِ.
فَأَمَّا مَا يُخْفِيهِ فِي نَفْسِهِ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالْمَخْفِيِّ في هذه الآية على قولهم:
أحدهما: أَنَّهُ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْمَخْفِيَّاتِ. وَهُوَ قَوْلُ الأَكْثَرِينَ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا هَلْ هَذَا الْحُكْمُ ثَابِتٌ فِي الْمُؤَاخَذَةِ أَمْ مَنْسُوخٌ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أحدهما: أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا}. هذا قول علي وابن مسعود في آخرين.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ بِشْرَانَ، قَالَ: أبنا إسحق الكاذي، قال: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: بنا عَبْدُ الْعَزِيزِ يَعْنِي: ابْنَ أَبَانٍ، قال: بنا إِسْرَائِيلُ عَنِ السُّدِّيِّ، عَمَّنْ سَمِعَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: نزلت {لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} أَحْزَنَتْنَا وَهَمَّتْنَا فَقُلْنَا: يُحَدِّثُ أَحَدُنَا نَفْسَهُ فَيُحَاسَبُ بِهِ فَلَمْ نَدْرِ مَا يُغْفَرُ مِنْهُ وَمَا لَمْ يُغْفَرْ، فَنَزَلَتْ بَعْدَهَا فَنَسَخَتْهَا {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا}.
أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ قريش، قال: أبنا أبو إسحق الْبَرْمَكِيُّ قَالَ: أَبْنَا: مُحَمَّدُ بْنُ إسماعيل بن عباس، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أبي داود قال: بنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ زَيْدٍ، قال: بنا حجاج قال: بنا هُشَيْمٌ عَنْ سَيَّارٍ أَبِي الْحَكَمِ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فِي قوله: {إن تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} قَالَ نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي تَلِيهَا: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}.
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْعَامِرِيُّ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الطُّوسِيُّ، قَالَ: أَبْنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ النَّيْسَابُورِيُّ قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ ظَاهِرٍ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ اليوشنجي، قَالَ: أَبْنَا أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامٍ، قال: بنا يزيد بن زريع، قال: بنا رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ الْعَلاءِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا أنزل الله عز وجل {إن تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، فقالوا: لو كلفنا مِنَ الأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ الصَّلاةَ وَالصِّيَامَ وَالْجِهَادَ، وَالصَّدَقَةَ وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْكَ هَذِهِ الْآيَةُ وَلا نُطِيقُهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنْ قَبْلِكُمْ - أَرَاهُ قَالَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا - قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وإليك المصير فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا الْقَوْمُ ذَلَّتْ بِهَا ألسنتهم فأنزل الله عز وجل فِي إِثْرِهَا {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} الْآيَةَ كُلَّهَا، وَنَسَخَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَأَنْزَلَ اللَّهُ {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا} الْآيَةَ إِلَى آخِرِهَا.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو طَاهِرٍ الْبَاقِلاوِيُّ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ شَاذَانَ، قال: بنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: بنا إبراهيم بن الحسين، قال: بنا آدم. قال: بنا وَرْقَاءُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {إن تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا}.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْبَقَّالُ قَالَ: أَبْنَا ابْنُ بِشْرَانَ، قال: بنا إسحاق الكاذي، قال: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ بنا علي بن حفص، قال بنا ورقاء عن عطاء ابن السَّائِبِ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا} قال نسخت هذه الآية {إن تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ}.
قَالَ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ آدَمَ عن سعيد ابْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: لما نزلت: {إن تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} شُقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، قَالَ: فَنَزَلَتْ: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا} فَنَسَخَتْهَا.
أَخْبَرَنَا بْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: بنا علي ابْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا أبو بكر النجاد، قال: بنا أبو داود السجستاني، قال: بنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ، قال: حدثني أبو عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما {إن تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} قال: نسخت، فقال لله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا}.
أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: بنا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: أَبْنَا محمد بن إسماعيل بن عباس، قال: بنا أبو بكر ابن أبي داود، قال: بنا عَلِيُّ بْنُ سَهْلِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قال: بنا عفان، قال: بنا أبو عَوَانَةُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: أَبْنَا عَاصِمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو عُمَرَ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: بنا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمَحَامِلِيُّ، قَالَ: بنا يعقوب الدورقي، قال: بنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: أَبْنَا سُفْيَانُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ تَلا هَذِهِ الْآيَةَ: {إن تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} فَدَمِعَتْ عَيْنَاهُ فَبَلَغَ صَنِيعُهُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَقَدْ صَنَعَ مَا صَنَعَ أَصْحَابُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَزَلَتْ فَنَسَخَتْهَا: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا}..
أخبرنا بن الْحُصَيْنِ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ الْمُذَهَّبِ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قال: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حنبل، قال: حدثتي أبي، قال: بنا عبد الرزاق، قال: بنا مَعْمَرٌ عَنْ حُمَيْدٍ الأَعْرَجِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقُلْتُ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ، فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ، فَبَكَى قَالَ: أَيَّةُ آية؟
قلت: {إن تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ حِينَ أُنْزِلَتْ غَمَّتْ أَصْحَابَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم غماً شَدِيدًا، وَغَاظَتْهُمْ غَيْظًا شَدِيدًا يَعْنِي وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلِكْنَا إِنْ كُنَّا نُؤَاخَذُ بِمَا تَكَلَّمْنَا بِهِ وَبِمَا نَعْمَلُ بِهِ فَأَمَّا قُلُوبُنَا فَلَيْسَتْ بِأَيْدِينَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا. قَالُوا: سمعنا وأطعنا، قَالَ: فَنَسَخَتْهَا هَذِهِ الْآيَةُ {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ ربه والمؤمنون} إِلَى {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} فَتُجُوِّزَ لَهُمْ عَنْ حَدِيثِ النَّفْسِ وَأُخِذُوا بِالأَعْمَالِ.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْبَقَّالُ، قَالَ: أَبْنَا ابن بشران، قال: بنا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ الْكَاذِيُّ، قَالَ: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي: قَالَ بنا وكيع، قال: بنا سفيان عن عطاء ابن السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، وَعَنْ جَابِرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: وَنَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا} نسخت {إن تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ}.
قَالَ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عمرو، قال: بنا زَايِدَةُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}، نسخت {إن تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ}.
قَالَ أَحْمَدُ: وَحَدَثَّنَا يُونُسُ قَالَ: بنا حَمَّادٌ يَعْنِي: ابْنَ سَلَمَةَ عَنْ حميد عن الحسن {إن تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} قَالَ: نَسَخَتْهَا {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا}.
قَالَ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَكَبُرَتْ عَلَيْهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَهَا آيَةً فِيهَا تَيْسِيرٌ وَعَافِيَةٌ وَتَخْفِيفٌ {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا}.
أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ قريش، قال: أبنا أبو إسحق الْبَرْمَكِيُّ قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ إسماعيل الوراق، قال: بنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، قال: بنا زياد بن أيوب، قال: بنا هُشَيْمٌ عَنْ يَسَارٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ قال: لما نزلت: {إن تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} كَانَ فِيهَا شِدَّةٌ حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} فنسخت ما قبلها.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بن إبراهيم، قال بنا الأَسْوَدُ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ يُونُسَ عن الحسن {إن تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ} قَالَ: نَسَخَتْهَا {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا}. وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَهَبَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَابْنُ سِيرِينَ وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ والسدي، وابن زيد، ومقاتل.
والقول الثاني: أنه لَمْ تُنْسَخْ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَرْبَابُ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى ثَلاثَةِ أَقْوَالٍ:
أحدها: أَنَّهُ ثَابِتٌ فِي الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى الْعُمُومِ فَيُؤَاخِذُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ. وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَابْنِ عُمَرَ، وَالْحَسَنِ وَاخْتَارَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدمشقي، والقاضي أبو يعلى.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ بِهِ وَاقِعَةٌ، لكن مَعْنَاهَا إِطْلاعُ الْعَبْدِ عَلَى فِعْلِهِ السيئ.
أخبرنا المبارك بن محلي، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ قُرَيْشٍ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ. أَبْنَا مُحَمَّدُ بن إسماعيل بن عباس، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أبي داود، قال: بنا يعقوب بن سفيان، قال: بنا أبو صالح قال: بنا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس رضي الله عبهما {إن تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ {لَمْ تُنْسَخْ} ولكن الله عز وجل إِذَا جَمَعَ الْخَلائِقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ لَهُمْ: إِنِّي أُخْبِرُكُمْ بِمَا أَخْفَيْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ مِمَّا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ مَلائِكَتِي فَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَيُخْبِرُهُمْ وَيَغْفِرُ لَهُمْ مَا حَدَّثُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} يَقُولُ: يُخْبِرُكُمْ بِهِ اللَّهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: وَأَمَّا أَهْلُ الشِّرْكِ وَالرَّيْبِ فَيُخْبِرُهُمْ بِمَا أَخْفَوْا مِنَ التَّكْذِيبِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ}.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن أيوب، قال: بنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أنس، قال: هِيَ مُحْكَمَةٌ لَمْ يَنْسَخْهَا شَيْءٌ. يقول {يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} يَقُولُ: يُعَرِّفُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّكَ أَخْفَيْتَ فِي صَدْرِكَ كَذَا وَكَذَا فَلا يُؤَاخِذُهُ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ مُحَاسَبَةَ الْعَبْدِ بِهِ نُزُولُ الْغَمِّ وَالْحُزْنِ وَالْعُقُوبَةِ وَالأَذَى بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ أَمْرٌ بِهِ خَاصٌّ فِي نَوْعٍ مِنَ الْمَخْفِيَّاتِ ثُمَّ لِأَرْبَابِ هَذَا الْقَوْلِ فيه قولان:
أحدهما: أَنَّهُ فِي الشَّهَادَةِ وَالْمَعْنَى إِنْ تُبْدُوا بِهَا الشُّهُودَ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ مِنْ كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ أَوْ تُخْفُوهُ.
أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ قُرَيْشٍ، قَالَ: أَبْنَا إِسْحَاقُ الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ إسماعيل، قال: بنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، قال: بنا زياد بن أيوب.
وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الْحَافِظُ، قَالَ: أَبْنَا عَاصِمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو عُمَرَ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ المحاملي، قال: بنا يَعْقُوبُ الدُّورَقِيُّ.
وَأَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أحمد، ابن بشران، قال: بنا الكاذي، قال: قال: أبنا عمربن عبيد الله، قال: أبنا بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حدثني أبي قال: بنا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَبْنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادَةَ، عَنْ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أنه قال: {إن تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ} قَالَ: نَزَلَتْ فِي كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ، وَإِقَامَتِهَا.
قَالَ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا يُونُسُ، قال: بنا حَمَّادٌ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: هَذِهِ فِي الشَّهَادَةِ {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} وَبِهَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ الشَّكُّ وَالْيَقِينُ.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْبَقَّالُ، قَالَ: أَبْنَا ابن بشران قال: بنا إسحاق الكاذي، فال: بنا عبد الله ابن أحمد ابن حنبل، قال: حدثني أبي.
وَأَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ قريش، قال: أبنا أبو إسحق الْبَرْمَكِيُّ قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ إسماعيل بن عباس، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أبي داود، قال: بنا المؤمل بن هشام قال بنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلْيَةَ.
وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو طَاهِرٍ الْبَاقِلاوِيُّ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الحسن، قال: بنا إبرإهيم بن الحسين، قال: بنا آدم، قال: بنا وَرْقَاءُ كِلاهُمَا عَنِ ابْنِ أَبِي نجيح عن مجاهد {إن تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ} مِنَ الشَّكِّ وَالْيَقِينِ فَعَلَى هَذَا الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ.
قَالَ: ابْنُ الأَنْبَارِيِّ وَالَّذِي نَخْتَارُهُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ لِأَنَّ النَّسْخَ إِنَّمَا يَدْخُلُ عَلَى الأَمْرِ وَالنَّهْيِ.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: لا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ نَسْخٌ؛ لِأَنَّهَا خَبَرٌ، وَإِنَّمَا التَّأْوِيلُ أَنَّهُ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إن تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} اشْتَدَّ عَلَيْهِمْ وَوَقَعَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْهُ شَيْءٌ عَظِيمٌ، فَنَسَخَ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا} أي: نسخ ما وقع بِقُلُوبِهِمْ، أَيْ: أَزَالَهُ وَرَفَعَهُ.

.ذِكْرُ الآيَةِ السَّابِعَةِ وَالثَّلاثِينَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا}.

اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَلْ هِيَ مُحْكَمَةٌ أَوْ مَنْسُوخَةٌ عَلَى قولين:
أحدهما: أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا يُكَلِّفُ الْعِبَادَ قَدْرَ طَاقَتِهِمْ فَحَسْبُ وَهَذَا مَذْهَبُ الأَكْثَرِينَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا اقْتَضَتِ التَّكْلِيفَ بِمِقْدَارِ الْوُسْعِ بِحَيْثُ لا يَنْقُصُ مِنْهُ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} وَذَلِكَ يَنْقُصُ عَنْ مِقْدَارِ الْوُسْعِ فنسختها.
والقول الأول أصح.

.بَابُ: ذِكْرِ الْآيَاتِ اللَّوَاتِي ادُّعِيَ عَلَيْهِنَّ النَّسْخُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ:

.ذِكْرُ الآيَةِ الأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ}.

قَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ هَذَا الْكَلامَ اقْتَضَى الِاقْتِصَارَ عَلَى التَّبْلِيغِ دُونَ الْقِتَالِ ثُمَّ نُسِخَ بِآيَةِ السَّيْفِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَمَّا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرِيصًا عَلَى إِيمَانِهِمْ مُزْعِجًا نَفْسَهُ فِي الِاجْتِهَادِ فِي ذَلِكَ سَكَنَ جَأْشُهُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ} و {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ} وَالْمَعْنَى: لا تَقْدِرُ عَلَى سَوْقِ قُلُوبِهِمْ إِلَى الصَّلاحِ فَعَلَى هَذَا لا نسخ.

.ذِكْرُ الآيَةِ الثَّانِيَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً}.

قد ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ اتِّقَاءُ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُوقِعُوا فِتْنَةً أَوْ مَا يُوجِبُ الْقَتْلَ وَالْفُرْقَةَ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِآيَةِ السَّيْفِ.
وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ جَوَازُ اتِّقَائِهِمْ إِذَا أَكْرَهُوا الْمُؤْمِنَ عَلَى الْكُفْرِ بِالْقَوْلِ الَّذِي لا يَعْتَقِدُهُ وَهَذَا الْحُكْمُ باقٍ غَيْرُ مَنْسُوخٍ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاَّّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإٍِيمَانِ}.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الْحَافِظُ قَالَ: أَبْنَا بْنُ خَيْرُونَ وَأَبُو طَاهِرٍ الباقلاوي، قالا: أَبْنَا بْنُ شَاذَانَ قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ كَامِلٍ قَالَ حَدَّثَنِي محمد ابن سَعْدٍ الْعَوْفِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً}. وَالتُّقْيَةُ بِاللِّسَانِ: مِنْ حُمِلَ عَلَى أَمْرٍ يَتَكَلَّمُ بِهِ وَهُوَ مَعْصِيَةُ اللَّهِ فَتَكَلَّمَ بِهِ مَخَافَةَ النَّاسِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ فَإِنَّ ذَلِكَ لا يَضُرُّهُ.
وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو طَاهِرٍ الْبَاقِلاوِيُّ قَالَ: أَبْنَا ابْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: أَبْنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قال: بنا آدم، قال: بنا وَرْقَاءَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، {إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} قَالَ: إِلا مُصَانَعَةً فِي الدِّينِ وَقَدْ زَعَمَ إِسْمَاعِيلُ السُّدِّيُّ، أَنْ قَوْلَهُ: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً}.
وَمِثْلُ هَذَا يَنْبَغِي تَنْزِيهُ الْكُتُبِ عَنْ ذِكْرِهِ فَضْلا عَنْ رَدِّهِ فَإِنَّهُ قَوْلُ مَنْ لا يَفْهَمُ مَا يَقُولُ.

.ذِكْرُ الآيَةِ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} إلى قوله: {يُنْظَرُونَ}.

اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِيمَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيات على ثلاثة أقوال:
أحدها: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِقَوْمِهِ. فَنَزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الآيَاتُ فَحَمَلَهَا إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ فَقَرَأَهُنَّ عَلَيْهِ فَرَجَعَ وأسلم، قاله مجاهد.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَشَرَةٍ آمَنُوا ثُمَّ ارْتَدُّوا، وَمِنْهُمْ طُعْمَةُ وَوُحُوحُ وَالْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدٍ، فَنَدِمَ مِنْهُمُ الْحَارِثُ وَعَادَ إِلَى الْإِسْلامِ. رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ ثُمَّ كَفَرُوا بِهِ. رَوَاهُ عَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ.
وَقَوْلُهُ: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا} استفهام في معنى الجحد، أي: لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ. وَفِيهِ طَرْفٌ مِنَ التَّوْبِيخِ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِعَبْدِهِ: كَيْفَ أُحْسِنُ إِلَى مَنْ لا يُطِيعُنِي. أَيْ: لَسْتُ أَفْعَلُ ذَلِكَ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لا يَهْدِي مَنْ عَانَدَ بَعْدَ أَنْ بَانَ لَهُ الصَّوَابُ. وَهَذَا مُحْكَمٌ لا وَجْهَ لِدُخُولِ النَّسْخِ عَلَيْهِ وَقَدْ زَعَمَ قَوْمٌ مِنْهُمُ السُّدِّيُّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مَنْسُوخَاتٌ بِقَوْلِهِ: {إِلاّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}.
أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ قُرَيْشٍ، قَالَ: أَبْنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُمَرَ الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْعَبَّاسِ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي داود، قال: بنا محمد بن الحسين، قال: بنا أحمد بن المفضل، قال: بنا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ، {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا} قال: نَزَلَتْ فِي الْحَارِثِ ثُمَّ أَسْلَمَ فنسخها الله عز وجل فَقَالَ: {إِلاّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا}.
قُلْتُ: وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَيْسَ بِنَسْخٍ وَإِنَّمَا هُوَ مُبَيِّنٌ، أَنَّ اللَّفْظَ الأَوَّلَ لَمْ يُرَدْ بِهِ الْعُمُومُ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ مَنْ عَانَدَ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَى الْحَقِّ بَعْدَ وُضُوحِهِ، وَيُؤَكِّدُ هَذَا أَنَّ الآيَاتِ خَبَرٌ، والنسخ لا يدخل في الأَخَبْارِ بِحَالٍ.

.ذِكْرُ الآيَةِ السَّادِسَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}.

قَالَ السُّدِّيُّ: هَذَا الْكَلامُ تَضَمَّنَ وُجُوبَ الْحِجِّ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ وَالْقَادِرِ وَالْعَاجِزِ، ثُمَّ نُسِخَ فِي حَقِّ عَادِمِ الاسْتِطَاعَةِ بِقَوْلِهِ: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}
قلت: وهذا قوله قَبِيحٌ، وَإِقْدَامٌ بِالرَّأْيِ الَّذِي لا يَسْتَنِدُ إِلَى مَعْرِفَةِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ عَلَى الْحُكْمِ بِنَسْخِ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا الصَّحِيحُ مَا قَالَهُ النَّحْوِيُّونَ كَافَّةً فِي هَذِهِ الآيَةِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: مَنْ بَدَلٌ مِنَ النَّاسِ وَهَذَا بَدَلُ الْبَعْضِ كَمَا يَقُولُ ضَرَبْتُ زَيْدًا بِرَأْسِهِ، فَيَصِيرُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَلِلَّهِ عَلَى مَنِ اسْتَطَاعَ مِنَ النَّاسِ الحج أَنْ يَحُجَّ.

.ذِكْرُ الآيَةِ السَّابِعَةِ: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}.

اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ هَذَا مُحْكَمٌ أو منسوخ على قولين:
أحدهما: أنه منسوب.
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ حَبِيبٍ الْعَامِرِيُّ، قَالَ: أَبْنَا عَلِيُّ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنِ حَمُّويَةَ، قَالَ: أَبْنَا إِبْرَاهِيمُ بن خريم، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ، قَالَ: بنا إِبْرَاهِيمُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عِكْرِمَةَ {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَشُقَّ ذَلِكَ على المسلمين فأنزل الله عز وجل بَعْدَ ذَلِكَ {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}.
قَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ: وَأَبْنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} قَالَ: نَسَخَتْهَا {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ بِشْرَانَ، قَالَ: أَبْنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ الْكَاذِيُّ، قال: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حدثني أبي، قال: بنا عبد الرزاق قال: بنا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} قَالَ: أَنْ يُطَاعَ فَلا يُعْصَى، ثُمَّ نَسَخَهَا قَوْلُهُ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}.
أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ قُرَيْشٍ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْعَبَّاسِ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، قال: بنا يعقوب بن سفيان، قال: بنا ابن بكير، قال: بنا ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} اشْتَدَّ عَلَى الْقَوْمِ الْعَمَلُ فَقَامُوا حَتَّى وَرِمَتْ عَرَاقِيبُهُمْ وَتَقَرَّحَتْ جِبَاهُهُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَخْفِيفًا عَنِ الْمُسْلِمِينَ {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} فنسخت الآية الأولى.
وعن ابن لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي صَخْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} قَالَ: نَسَخَتْهَا {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}.
قَالَ: أَبُو بَكْرٍ: وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن الحسين بْنِ أَبِي حُنَيْفٍ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: أَبْنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: أَمَّا حق تقاته: أَنْ يُطَاعَ فَلا يُعْصَى، وَيُذْكَرَ فَلا يُنْسَى، وَيُشْكَرَ فَلا يُكْفَرَ فَلَمْ يُطِقِ النَّاسُ هَذَا فَنَسَخَهَا اللَّهُ عَنْهُمْ فَقَالَ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}.
وَإِلَى هُنَا ذَهَبَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَمُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ.
وَمِنْ نَصَّ هَذَا الْقَوْلِ قال: حق تقاته: هُوَ الْقِيَامُ لَهُ بِجَمِيعِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ طَاعَةٍ وَاجْتِنَابِ مَعْصِيَةٍ، قَالُوا: هَذَا أَمْرٌ تَعْجَزُ الْخَلائِقُ عَنْهُ، فَكَيْفَ بِالْوَاحِدِ مِنْهُمْ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مَنْسُوخَةً وَأَنَّ تَعَلُّقَ الأَمْرِ بِالاسْتِطَاعَةِ.
وَيُوَضِّحُ هَذَا مَا أَخْبَرَنَا بِهِ يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ الْمُدِيرُ قَالَ: أَبْنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْمَنْصُورِ قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحِرْزِيُّ، قَالَ: أَبْنَا البغوي، قال: بنا محمد بن بكار، قال: بنا مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ عَنْ زُبَيْدٍ عَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} قَالَ: أَنْ يُطَاعَ فَلا يُعْصَى وَأَنْ يُذْكَرَ فَلا يُنْسَى، وَأَنْ يُشْكَرَ فَلا يُكْفَرُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ.
أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ قُرَيْشٍ، قَالَ: أَبْنَا إِسْحَاقَ الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْعَبَّاسِ، قَالَ: بنا أبو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، قَالَ: بنا يعقوب بن سفيان، قال: بنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} قَالَ: لَمْ تُنْسَخْ, وَلَكِنْ حَقَّ تقاته: أَنْ تُجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ. وَلا تَأْخُذُهُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لائِمٍ وَيَقُومُوا لِلَّهِ بِالْقِسْطِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَآبَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ.
وَهَذَا مَذْهَبُ طَاوُسٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ.
لأن التقوى: هو اجْتِنَابُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْ شَيْءٍ وَلا أَمَرَ بِهِ إِلا وَهُوَ دَاخِلٌ تحت الطاقة كما قال عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا}.
فَالْآيَتَانِ مُتَوَافِقَتَانِ، وَالتَّقْدِيرُ: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ مَا اسْتَطَعْتُمْ.
فَقَدْ فَهِمَ الأَوَّلُونَ مِنَ الآيَةِ تَكْلِيفَ مَا لا يُسْتَطَاعُ فَحَكَمُوا بِالنَّسْخِ وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا} وإنما قوله حق تقاته، كقوله: حق جهاده، الحق ها هنا بِمَعْنَى الْحَقِيقَةِ. ثُمَّ إِنَّ هَفْوَةَ المذنب لا تُنَافِي أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا لِلتَّحَفُّظِ، وَإِنَّمَا شُرِعَ الاسْتِغْفَارُ وَالتَّوْبَةُ بِوُقُوعِ الْهَفَوَاتِ.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: مَعْنَى قَوْلِ الأَوَّلِينَ نُسِخَتْ هَذِهِ الآيَةُ أَيْ: أُنْزِلَتِ الأُخْرَى بِنُسْخَتِهَا وَهُمَا وَاحِدٌ، وَإِلا فَهَذَا لا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ، لِأَنَّ النَّاسِخَ هُوَ الْمُخَالِفُ لِلْمَنْسُوخِ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ الرَّافِعُ لَهُ الْمُزِيلُ حُكْمَهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: لَيْسَتْ مَنْسُوخَةً، لِأَنَّ قَوْلَهُ: {مَا اسْتَطَعْتُمْ} بَيَانٌ لِحَقِّ تُقَاتِهِ وَأَنَّهُ تَحْتَ الطَّاقَةِ فَمَنْ سَمَّى بَيَانَ الْقُرْآنِ نَسْخًا فَقَدْ أَخْطَأَ.
وَهَذَا فِي تَحْقِيقِ الْفُقَهَاءِ يُسَمَّى: تَفْسِيرٌ مُجْمَلٌ أَوْ بَيَانٌ مُشْكَلٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقَوْمَ ظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ تَكْلِيفُ مَا لا يُطَاقُ فَأَزَالَ اللَّهُ إِشْكَالَهُمْ. فَلَوْ قَالَ: لا تَتَّقُوهُ حَقَّ تُقَاتِهِ كَانَ نَسْخًا، وَإِنَّمَا بَيَّنَ أَنِّي لَمْ أُرِدْ بِحَقِّ التُّقَاةِ، مَا لَيْسَ فِي الطَّاقَةِ.

.ذِكْرُ الآيَةِ الثَّامِنَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاّ أَذىً}.

قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَى الْكَلامِ: لَنْ يَضُّرُوكُمْ ضُرًا بَاقِيًا فِي جَسَدٍ أَوْ مَالٍ إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ يَسِيرٌ سَرِيعُ الزَّوَالِ، وَتُثَابُونَ عَلَيْهِ. وَهَذَا لا يُنَافِي الأَمْرَ بِقِتَالِهِمْ فَالْآيَةُ مُحْكَمَةٌ عَلَى هَذَا، وَيُؤَكِّدُهُ أَنَّهَا خَبَرٌ، وَالأَخْبَارُ لا تُنْسَخُ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: الإِشَارَةُ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ بِقِتَالِهِمْ فَنُسِخَتْ بِقَوْلِهِ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} وَالأَوَّلُ أَصَحُّ.

.ذِكْرُ الآيَةِ التَّاسِعَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا}.

جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْكَلامَ مُحْكَمٌ وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِشَيْئَيْنِ:
أحدهما: أَنَّهُ خَبَرٌ وَالْخَبَرُ لا يَدْخُلُهُ النسخ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ قَالُوا: مَا أَحَدٌ إِلا وَلَهُ مِنَ الدُّنْيَا نَصِيبٌ مُقَدَّرٌ، وَلا يَفُوتُهُ مَا قُسِمَ لَهُ. فَمَنْ كَانَتْ هِمَّتُهُ ثَوَابُ الدُّنْيَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنْهَا مَا قُدِّرَ لَهُ وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَشَاؤُهُ اللَّهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} وَلَمْ يَقُلْ يُؤْتِهِ مِنْهَا مَا يَشَاءُ هُوَ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَفْتِنَهُ أَوْ يُعَاقِبَهُ.
وَذَهَبَ السُّدِّيُّ إِلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} وَلَيْسَ هَذَا بِقَوْلِ مَنْ يَفْهَمُ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ، فَلا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ.

.ذِكْرُ الآيَةِ الْعَاشِرَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ}

الْجُمْهُورُ عَلَى إِحْكَامِ هَذِهِ الآيَةِ، لِأَنَّهَا تَضَمَّنَتِ الأَمْرَ بِالصَّبْرِ وَالتَّقْوَى وَلا بُدَّ لِلْمُؤْمِنِ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الصبر المذكور ها هنا منسوخ بآية السيف.

.بَابُ: ذِكْرِ الْآيَاتِ اللَّوَاتِي ادُّعِيَ عَلَيْهِنَّ النَّسْخُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ:

وَهِيَ سِتٌّ وَعِشْرُونَ.

.ذِكْرُ الآيَةِ الأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}.

اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّ الْغَنِيَّ لا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ شَيْئًا، وقالوا: معنى قوله: {فَلْيَسْتَعْفِفْ} أَيْ: بِمَالِ نَفْسِهِ عَنْ مَالِ الْيَتِيمِ، فَإِنْ كَانَ فَقِيرًا فَلَهُمْ فِي الْمُرَادِ بِأَكْلِهِ بِالْمَعْرُوفِ أَرْبَعَةُ أقوال:
أحدها: أَنَّهُ الِاسْتِقْرَاضُ مِنْهُ، رَوَى حَارِثَةُ بْنُ مُضَرِّبٍ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: إِنِّي أَنْزَلْتُ مَالَ اللَّهِ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ الْيَتِيمِ، إِنِ اسْتَغْنَيْتُ اسْتَعْفَفْتُ وَإِنِ افْتَقَرْتُ أَكَلْتُ بِالْمَعْرُوفِ ثم قضيت.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الْحَافِظُ قَالَ: أَبْنَا أَبُو الْفَضْلِ بْنُ خَيْرُونُ، وَأَبُو طَاهِرٍ الْبَاقِلاوِيُّ، قَالا: أَبْنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ كَامِلٍ قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} قَالَ: يَسْتَقْرِضُ مِنْهُ فَإِذَا وَجَدَ مَيْسَرَةً فَلْيَقْضِ مَا يَسْتَقْرِضُ فَذَلِكَ أَكْلُهُ بِالْمَعْرُوفِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو طَاهِرٍ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ شَاذَانَ قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: أَبْنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: أَبْنَا آدَمُ قَالَ: أَبْنَا وَرْقَاءُ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: يَأْكُلُ بِالْمَعْرُوفِ: يَعْنِي: سَلَفًا مِنْ مَالِ يَتِيمِهِ.
وَهَذَا الْقَوْلُ مَذْهَبُ عُبَيْدَةَ السَّلْمَانِيِّ، وَأَبِي وَائِلٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَمُقَاتِلٍ. وَقَدْ حَكَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلَهُ وَرَوَى يَعْقُوبُ بْنُ حَيَّانَ عَنْ أَحْمَدَ بن حنبل مثله.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الأَكْلَ بِالْمَعْرُوفِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ.
أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ غَيْلانَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بكر الشافعي، قال: بنا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: أَبْنَا موسى بن مسعود، قال: بنا الثوري؛ قال: بنا سُفْيَانُ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ {وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} قال: ما سد الْجُوعَ وَيُوَارِي الْعَوْرَةَ.
وَقَدْ رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: الْوَصِيُّ إِذَا احْتَاجَ وَضَعَ يَدِهُ مَعَ أَيْدِيهِمْ، وَلا يَلْبَسُ عِمَامَةً.
وَقَالَ الْحَسَنُ: وَعَطَاءٌ وَمَكْحُولٌ: يَأْخُذُ مَا يَسُدُّ الْجُوعَ وَيُوَارِي الْعَوْرَةَ وَلا يَقْضِي إِذَا وَجَدَ.
قَالَ عِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ: يَأْكُلُ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِهِ وَلا يُسْرِفُ فِي الأَكْلِ وَلا يَكْتَسِي منه، وهذا مذهب قتادة.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَقُولُ: مَالُ الْيَتِيمِ بِمَنْزِلَةِ الْمَيْتَةِ يُتَنَاوَلُ مِنْهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَإِذَا أَيْسَرَ قَضَاهُ وَإِنْ لَمْ يُوسِرْ فَهُوَ فِي حِلٍّ. قَالَهُ الشَّعْبِيُّ.
وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو طَاهِرٍ الْبَاقِلاوِيُّ وَقَالَ: أَبْنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: أَبْنَا إِبْرَاهِيمُ بن الحسين، قال: بنا آدم، قال: بنا وَرْقَاءُ، عَنْ عَبْدِ الأَعْلَى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: يَأْكُلُ وَالِي الْيَتِيمِ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ قُوتَهُ وَيَلْبَسُ مِنْهُ مَا يَسْتُرُهُ وَيَشْرَبُ فَضْلَ اللَّبَنِ وَيَرْكَبُ فَضْلَ الظَّهْرِ، فَإِنْ أَيْسَرَ قَضَاهُ وَإِنْ أَعْسَرَ كَانَ فِي حِلٍّ.
فَهَذِهِ الأَقْوَالُ الثَّلاثَةُ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الأَخْذِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَإِنِ اخْتَلَفَ أَرْبَابُهَا فِي الْقَضَاءِ.
الْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ الأَكْلَ بِالْمَعْرُوفِ أَنْ يَأْخُذَ الْوَلِيُّ بِقَدْرِ أُجْرَتِهِ إِذَا عَمِلَ لِلْيَتِيمِ عَمَلا، وَرَوَى الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: أَنَّ رَجُلا أَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لِيَتِيمٍ لِي إِبِلٌ فَمَا لِي مِنْ إِبِلِهِ؟ قَالَ: إِنْ كُنْتَ تلوظ حِيَاضَهَا وَتَهْنَأُ جَرْبَاهَا وَتَبْغِي ضَالَّتَهَا وَتَسْعَى عَلَيْهَا فَاشْرَبْ غَيْرَ نَاهِكٍ بحلب ولا ضار بنسل.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ: أَبْنَا أَبُو طَاهِرٍ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ قَالَ: أَبْنَا إِبْرَاهِيمُ بن الحسين، قال: بنا آدم، قال: بنا وَرْقَاءَ عَنِ ابْنِ نَجِيحٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: يَضَعُ يَدَهُ مَعَ أَيْدِيهِمْ وَيَأْكُلُ معهم بقدر خدمته وقدر عمل، وَقَدْ رَوَى أَبُو طَالِبٍ وَابْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ مثل هذا.

.فَصْلٌ:

وَعَلَى هَذِهِ الأَقْوَالِ الآيَةُ مُحْكَمَةٌ.
وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى نَسْخِهَا: فَقَالُوا: كَانَ هَذَا فِي أَوَّلِ الأَمْرِ ثُمَّ نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل} وَقَدْ حُكِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ بِشْرَانَ، قَالَ: أَبْنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ الْكَاذِيُّ، قال: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: بنا حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} قَالَ: نُسِخَ مِنْ ذَلِكَ الظُّلْمُ والاعتداء فنسخها: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً}.
أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ قريش، قال: بنا أَبُو إِسْحَاقَ الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْعَبَّاسِ، قال: بنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، قال: بنا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَطِيَّةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما في قوله: {مَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} نَسَخَتْهَا الآيَةُ الَّتِي تَلِيهَا {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} الآية.
قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي داود: وبنا يعقوب بن سفيان، قال: بنا عبد الله ابن عثمان، قال: بنا عِيسَى بْنُ عُبَيْدٍ الْكِنْدِيُّ، قَالَ: بنا عبيد الله مولى عمر ابن مُسْلِمٍ أَنَّ الضَّحَّاكَ بْنَ مُزَاحِمٍ أخبره، قال: {مَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ} الآية نسخت فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} الآيَةُ.
قُلْتُ: وَهَذَا مُقْتَضَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، أَعْنِي النَّسْخَ، لِأَنَّ الْمَشْهُورَ عَنْهُ أَنَّهُ لا يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ الأَخْذُ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ عِنْدَ الْحَاجَةِ عَلَى وَجْهِ الْقَرْضِ، وَإِنْ أُخِذَ ضُمِنَ.
وَقَالَ قَوْمٌ: لَوْ أَدْرَكَتْهُ ضَرُورَةٌ جَازَ لَهُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ وَلا يَأْخُذُ مِنْ مال اليتيم شيئاً.

.ذِكْرُ الآيَةِ الثَّانِيَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ}.

قَدْ زَعَمَ بَعْضُ مَنْ قَلَّ عِلْمُهُ وَعَزُبَ فَهْمُهُ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي إِثْبَاتِ نَصِيبِ النِّسَاءِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا لا يُوَرِّثُونَ النِّسَاءَ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ.
وَهَذَا قَوْلٌ مَرْدُودٌ فِي الْغَايَةِ وَإِنَّمَا أَثْبَتَتْ هَذِهِ الآيَةُ مِيرَاثَ النساء في الجملة وثبت آيَةُ الْمَوَارِيثِ مِقْدَارَهُ وَلا وَجْهَ لِلنَّسْخِ بِحَالٍ.

.ذِكْرُ الآيَةِ الثَّالِثَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ}.

اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ على قولين:
أحدهما: أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ.
فَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ النَّاسَ يَزْعُمُونَ أَنَّ هَذِهِ الآية قد نُسِخَتْ وَاللَّهِ مَا نُسِخَتْ وَلَكِنَّهَا مما تهاون الناس به.
وَأَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: بنا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْبَقَّالُ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ بِشْرَانَ، قَالَ: أَبْنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ الْكَاذِيُّ، قال بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: بنا يحيى بن آدم، قال: بنا الأَشْجَعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى} قَالَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ وَلَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ.
قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِذَا وَلِيَ رَضَخَ وَإِذَّا كَانَ الْمَالُ فِيهِ قِلَّةٌ اعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ وَذَلِكَ القول المعروف.
قال أحمد: وبنا عبد الصمد، قال: بنا همام قال بنا قَتَادَةُ: قَالَ الأَشْعَرِيُّ: لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ.
قال أحمد: وبنا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ مَطَرٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: وَاللَّهِ ما هي بمنسوخة، وإنها لثابتة. وَلَكِنَّ النَّاسَ بَخِلُوا وَشَحُّوا وَكَانَ النَّاسُ إِذَا قُسِّمَ الْمِيرَاثُ حَضَرَ الْجَارُ وَالْفَقِيرُ وَالْيَتِيمُ وَالْمِسْكِينُ فَيُعْطُونَهُمْ من ذلك.
قَالَ أحمد: وبنا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. قَالَ: وَأَبْنَا مُغِيرَةُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالا: هِيَ مُحْكَمَةٌ وَلَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ.
قَالَ أحمد: وبنا يَزِيدُ، قَالَ: أَبْنَا سُفْيَانُ بْنُ حسين، قال: سمعت الحسن ومحمداً، يقولان قي هذه الآية: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى} هِيَ مُثْبَتَةٌ لَمْ تُنْسَخْ وَكَانَتِ الْقِسْمَةُ إِذَا حَضَرَتْ حَضَرَ هَؤُلاءِ فَرُضِخَ لَهُمْ مِنْهَا، وَأُعْطُوا.
قَالَ أحمد: وبنا يحيى بن آدم قال: بنا الأَشْجَعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَالشَّعْبِيِّ {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى} قَالا: هِيَ مُحْكَمَةٌ وَلَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ.
قال أحمد: وبنا عَبْدُ الأَعْلَى عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ إِنَّهَا مُحَكْمَةٌ لَمْ تُنْسَخْ.
وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى إِحْكَامِهَا عَطَاءٌ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِإِحْكَامِهَا فِي الأَمْرِ الْمَذْكُورِ فِيهَا.
فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ: إِلَى أَنَّهُ عَلَى سَبِيلِ الاستحباب أو الندب وَهُوَ الصَّحِيحُ.
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ: إِلَى أَنَّهُ عَلَى الْوُجُوبِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ بشران، قال: بنا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ الْكَاذِيُّ، قَالَ: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: بنا حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} فَنَسَخَتْهَا آيَةُ الْمِيرَاثِ فَجُعِلَ لِكُلِّ إِنْسَانٍ نَصِيبًا مِمَّا تَرَكَ مِمَّا قلّ منه أو كثر.
قال أحمد: وبنا يحيى بن آدم قال: بنا الأَشْجَعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ السُّدِّيِّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَإِذَا حَضَرَ القسمة قَالَ: نَسَخَتْهَا آيَةُ الْمِيرَاثِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ الْمُبَارَكِ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو الْفَضْلِ بْنُ خَيْرُونُ، وَأَبُو طَاهِرٍ الْبَاقِلاوِيُّ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ كَامِلٍ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً} يَعْنِي: عِنْدَ قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ الْفَرَائِضُ وَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْفَرَائِضَ فَأَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ.
وَرَوَى مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: نَسَخَتْهَا {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ} الآيَةُ.
وَأَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ بِشْرَانَ، قَالَ: أَبْنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أحمد بن حنبل قال: حدثني أبي، قال: بنا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: كَانَتْ هَذِهِ قَبْلَ الْفَرَائِضِ وَقِسْمَةِ الْمِيرَاثِ، فَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ لِأَهْلِ الْمِيرَاثِ مِيرَاثَهُمْ صَارَتْ مَنْسُوخَةً.
قال أحمد: وبنا عبد الصمد، قال: بنا همام، قال: بنا قَتَادَةُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، قَالَ: كَانَتْ قَبْلَ الْفَرَائِضِ، وَكَانَ مَا تُرِكَ مِنْ مَالٍ أُعْطِيَ مِنْهُ الْفُقَرَاءُ، وَالْمَسَاكِينُ، واليتامى، وذوي الْقُرْبَى إِذَا حَضَرُوا الْقِسْمَةَ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بَعْدُ، نَسَخَهَا الْمَوَارِيثُ فَأَلْحَقَ اللَّهُ لِكُلِّ ذِي حَقٍّ حقه، فصارت وصية من ما له يُوصِي بِهَا لِذِي قَرَابَتِهِ، وَحَيْثُ يَشَاءُ.
أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ قُرَيْشٍ، قَالَ: أَبْنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُمَرَ الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْعَبَّاسِ قال: بنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، قال: بنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَبِيبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} قَالَ: نَسَخَتْهَا آيَةُ الْمِيرَاثِ.
قَالَ أبو بكر: وبنا يعقوب بن سفيان قال: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ قَالَ: أَبْنَا عِيسَى بْنُ عُبَيْدٍ الْكِنْدِيُّ، قال: بنا عُبَيْدُ اللَّهِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ مسلم أَنَّ الضَّحَّاكَ بْنَ مُزَاحِمٍ قَالَ: فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى} قَالَ: نَسَخَتْهَا آيَةُ الْمِيرَاثِ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: نَسَخَتْهَا آيَةُ الْفَرَائِضِ.
وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ قَتَادَةُ، وَأَبُو الشَّعْثَاءِ وَأَبُو صَالِحٍ وَعَطَاءٌ في رواية.

.ذِكْرُ الآيَةِ الرَّابِعَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً}

فِي الْمُخَاطَبِينَ بِهَذِهِ الآيَةِ ثَلاثَةُ أقوال:
أحدهما: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْحَاضِرِينَ عِنْدَ الْمُوصِي. ثُمَّ فِي مَعْنَى الْكَلامِ عَلَى هذا القول قولان:
أحدهما: أَنَّ الْمَعْنَى {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا} وليخش الذين يحضرون موصياً بوصي في ماله أن يأمروه بتفريق ما له فِيمَنْ لا يَرِثُهُ فَيُفَرِّقُهُ وَيَتْرُكُ وَرَثَتَهُ وَلَكِنْ لِيَأْمُرُوهُ أَنْ يُبْقِيَ مَالَهُ لِأَوْلادِهِ كَمَا لَوْ كَانُوا هُمُ الَّذِينَ يُوصُونَ لَسَرَّهُمْ أَنْ يَحُثَّهُمْ مَنْ حَضَرَهُمْ عَلَى حِفْظِ الأَمْوَالِ لِلأَوْلادِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ، والسدي ومقاتل.
وَالثَّانِي: عَلَى الضِّدِّ، وَهُوَ أَنَّهُ نَهَيٌ لِحَاضِرِي الْمُوصِي عِنْدَ الْمَوْتِ أَنْ يَمْنَعُوهُ عَنِ الْوَصِيَّةِ لِأَقَارِبِهِ، وَأَنْ يَأْمُرُوهُ الِاقْتِصَارَ عَلَى وَلَدِهِ وَهَذَا قَوْلُ مِقْسَمٍ وَسُلَيْمَانَ التَّمِيمِيِّ.
الْقَوْلُ الثَّاني: أَنَّهُ خِطَابٌ لِأَوْلِيَاءِ الْيَتَامَى، رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا} فَقَالَ تَعَالَى: - يَعْنِي أَوْلِيَاءَ الْيَتَامَى - {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ} فِيمَنْ وُلُّوهُ مِنَ الْيَتَامَى وَلْيُحْسِنُوا إِلَيْهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ كَمَا يُحِبُّونَ أَنْ يُحْسِنَ وُلاةُ أَوْلادِهِمْ لَوْ مَاتُوا هُمْ إِلَيْهِمْ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما أيضاً.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلأَوْصِيَاءِ بِإِجْرَاءِ الْوَصِيَّةِ عَلَى مَا رَسَمَ الْمُوصِي وَأَنْ يَكُونَ الْوُجُوهُ الَّتِي فِيهَا مَرْعِيَّةً بِالْمُحَافَظَةِ كَرَعْيِ الذُّرِّيَّةِ الضِّعَافِ مِنْ غَيْرِ تَبْدِيلٍ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْه} فَأُمِرَ بِهَذِهِ الآيَةِ إِذَا وَجَدَ الْوَصِيُّ مِنَ الْمُوصِي فِي الْوَصِيَّةِ جَنَفًا أَوْ مَيْلا عَنِ الْحَقِّ فَعَلَيْهِ الإِصْلاحُ فِي ذَلِكَ، وَاسْتِعْمَالُ قَضِيَّةِ الشَّرْعِ وَرَفْعِ الْحَالِ الْوَاقِعِ فِي الْوَصِيَّةِ. ذَكَرَهُ شَيْخُنَا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ وَغَيْرُهُ.
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً، وَعَلَى الأَقْوَالِ قَبْلَهَا هِيَ مُحْكَمَةٌ. وَالنَّسْخُ مِنْهَا بَعِيدٌ، لِأَنَّهُ إِذَا أَوْصَى بِجَوْرٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يجري على ما أوصى.

.ذِكْرُ الآيَةِ الْخَامِسَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً}.

قَدْ تَوَهَّمَ قَوْمٌ لَمْ يُرْزَقُوا فَهْمَ التَّفْسِيرِ وَفِقْهَهُ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} وَأَثْبَتُوا ذَلِكَ فِي كُتُبِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَرَوَوْهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَإِنَّمَا الْمَنْقُولُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا أَخْبَرَنَا بِهِ الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أنبا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ قُرَيْشٍ، قَالَ أَبْنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بن العباس، قال: بنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، قال: بنا عَمْرُو بْنُ عَلِيِّ بْنِ بَحْرٍ قال: بنا عمران بن عيينة، قال: بنا عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} قَالَ: كَانَ يَكُونُ فِي حِجْرِ الرَّجُلِ الْيَتِيمُ فَيَعْزِلُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} فأحل لهم طعامهم.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَمَّا نَزَلَتْ: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} عَزَلُوا أَمْوَالَهُمْ مِنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى، وتحرجوا من مخاطبتهم فَنَزَلَ قَوْلُهُ: تَعَالَى: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ}. وَهَذَا لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ النَّسْخِ؛ لِأَنَّهُ لا خِلافَ أَنَّ أَكْلَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى ظُلْمًا حَرَامٌ.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: هَذِهِ الآيَةُ لا يَجُوزُ فِيهَا نَاسِخٌ وَلا مَنْسُوخٌ، لِأَنَّهَا خَبَرٌ وَوَعِيدٌ، وَنَهْيٌ عَنِ الظُّلْمِ وَالتَّعَدِّي، وَمُحَالٌ نَسْخُ هَذَا، فَإِنْ صَحَّ مَا ذَكَرُوا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَتَأْوِيلُهُ مِنَ اللُّغَةِ: أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ عَلَى نسخة تلك الآية.
وزعم بَعْضُهُمْ أَنَّ نَاسِخَ هَذِهِ الآيَةِ قوله تعالى: {َمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} وَهَذَا قَبِيحٌ؛ لِأَنَّ الأَكْلَ بِالْمَعْرُوفِ لَيْسَ بِظُلْمٍ فَلا تَنَافِيَ بَيْنَ الآيتين.

.ذِكْرُ الآيَةِ السَّادِسَةِ وَالسَّابِعَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللاّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} وقوله: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا}. الآيَتَانِ.

أَمَّا الآيَةُ الأُولَى فَإِنَّهَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّ حَدَّ الزَّانِيَةِ كَانَ أَوَّلَ الْإِسْلامِ الْحَبْسَ إِلَى أَنْ تَمُوتَ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهَا سَبِيلا، وَهُوَ عَامٌّ فِي الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ.
وَالآيَةُ الثَّانِيَةُ اقْتَضَتْ أَنَّ حَدَّ الزَّانِيَيْنِ الأَذَى فَظَهَرَ مِنَ الآيَتَيْنِ أَنَّ حَدَّ الْمَرْأَةِ كَانَ الْحَبْسَ وَالأَذَى جَمِيعًا، وَحَدَّ الرَّجُلِ كَانَ الأَذَى فَقَطْ، لِأَنَّ الْحَبْسَ وَرَدَ خَاصًّا فِي النِّسَاءِ، وَالأَذَى وَرَدَ عَامًّا فِي الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَإِنَّمَا خُصَّ النِّسَاءُ فِي الآيَةِ الأُولَى بِالذِّكْرِ، لِأَنَّهُنَّ يَنْفَرِدْنَ بِالْحَبْسِ دُونَ الرِّجَالِ، وَجُمِعَ بَيْنَهُمَا فِي الآيَةِ الثَّانِيَةِ، لِأَنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي الأَذَى، وَلا يَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ فِي نَسْخِ هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ عَنِ الزَّانِيَيْنِ، أَعْنِي: الْحَبْسَ وَالأَذَى، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا بِمَاذَا نُسِخَا؟ فَقَالَ قَوْمٌ نسخ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}.
أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ قُرَيْشٍ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ إسماعيل بن العباس، قال: بنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ قال: بنا يعقوب بن سفيان، قال: بنا أبو صالح قال: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {وَاللاّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} قَالَ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا زَنَتْ حُبِسَتْ فِي الْبَيْتِ حَتَّى تَمُوتَ، وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا زَنَى أُوذِيَ بالتعيير، وَالضَّرْبِ بِالنِّعَالِ، فَنَزَلَتْ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}. وَإِنْ كَانَا مُحْصَنَيْنِ رُجِمَا بِسُنَّةِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم.
أبنا عَبْدُ الْوَهَّابِ الْحَافِظُ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو طَاهِرٍ الْبَاقِلاوِيُّ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: أَبْنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قال: بنا آدم، قال: بنا وَرْقَاءَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عن مجاهد {فآذوهما} يَعْنِي سَبًّا ثُمَّ نَسَخَتْهَا {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: بنا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: بنا ابْنُ بِشْرَانَ، قَالَ: أَبْنَا إِسْحَاقُ بن أحمد، قال: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: بنا عبد الرزاق، قال: بنا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ، {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ} قال: نسختها الحدود.
قال أحمد: وبنا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ {وَاللاّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} قَالَ: كَانَتْ هَذِهِ الآيَةُ قَبْلَ الحدود ثم أنزلت: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} قَالَ: كَانَا يُؤْذَيَانِ بِالْقَوْلِ وَالشَّتْمِ وَتُحْبَسُ الْمَرْأَةُ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَسَخَ ذَلِكَ فَقَالَ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}.
قال أحمد: وبنا عَلِيُّ بْنُ حَفْصٍ عَنِ ابْنِ أبي نجيح عن مجاهد {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} قَالَ: نَسَخَتْهُ الآيَةُ الَّتِي فِي النور بالحد المفروض.
وقال قَوْمٌ: نُسِخَ هَذَانِ الْحُكْمَانِ بِحَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا، الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ وَالْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ ونفي سنة.
قَالُوا فَنُسِخَتِ الْآيَةُ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَهَؤُلاءِ يُجِيزُونَ نَسْخَ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ وَهَذَا قَوْلٌ مُطْرَحٌ، لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُشْتَرَطَ التَّوَاتُرُ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ، فَأَمَّا أَنْ يُنْسَخَ الْقُرْآنُ بِأَخْبَارِ الآحَادِ فَلا يَجُوزُ ذلك وهذا مِنْ أَخْبَارِ الآحَادِ.
وَقَالَ الآخَرُونَ: السَّبِيلُ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ هُوَ الآيَةُ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}.
وقال آخَرُونَ: بَلِ السَّبِيلُ قُرْآنٌ نَزَلَ ثُمَّ رُفِعَ رَسْمُهُ وَبَقِيَ حُكْمُهُ.
وَظَاهِرُ حَدِيثِ عُبَادَةَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ قَالَ: قَدْ جَعَلَ الله لهن سبيلاً فأخبر أن اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لَهُنَّ السَّبِيلَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بِوَحْيٍ لَمْ تَسْتَقِرَّ تِلاوَتُهُ وَهَذَا يَخْرُجُ عَلَى قَوْلِ مَنْ لا يَرَى نَسْخَ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ بِمَاذَا ثبت الرجم على قولين:
أحدهما: أَنَّهُ نَزَلَ بِهِ قُرْآنٌ ثُمَّ نُسِخَ لَفْظُهُ، وَانْعَقَدَ الإِجْمَاعُ عَلَى بَقَاءِ حُكْمِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ.